Publications

تطور مدينة بغداد خلال الانتداب و الحكم الملكي (1917 – 1958)

1

تطور مدينة بغداد خلال الانتداب و الحكم الملكي (1917 – 1958))‏

أ.د علاء محمود التميمي

مرت مدينة بغداد بعد تأسيس النظام الملكي بمراحل نمو وتطور كثيرة جرت خلالها عدة محاولات لوضع ‏تصاميم أساسية لها وتوسيعها المدينة لتتلاءم مع زيادة اعداد السكان عن طريق وضع تصاميم أساسية لها، ‏وقامت بتكليف عدد من الشركات الاستشارية الأجنبية المتخصصة في مجال تخطيط المدن.

كان توسع المدينة قد تم على شكل مراحل خلال حقب زمنية مختلفة، بدأت المرحلة الاولى منها عام 1920، ‏خلال عهد الانتداب عندما أعد المهندس المعماري البريطاني ويلسون(G .m Wilson) تصميماً اساسياً. اقترح ‏فيه اعادة تنظيم المدينة واستحداث وحدات سكنية في العديد من المناطق منها العلوية والسعدون والهنيدي ‏‏(معسكر الرشيد).‏

وفي عام 1923 ظهرت حركة العمران والتوسع حول الكرخ والرصافة والكاظمية والاعظمية وكانت على شكل ‏امتداد طولي بدلاً من الدائري او شبه الدائري.

ويمكن القول ان توسع مدينة بغداد وتطورها خلال عهد الانتداب قد فاق التطور الذي حدث في المدن العراقية ‏الاخرى كونها عاصمة المملكة وبفعل عوامل اخرى أبعدتها عن الصفة الإقليمية التي تميزت بها تلك المدن ففي ‏عام 1930 أنشأت محلة السعدون وتوسعت الاعظمية القديمة (الشيوخ، النصة، الحارة والسفينة) نحو هيبة ‏خاتون، وأنشأت محلة راغبة خاتون وتوسعت محلة الشيوخ في عام 1931‏

اما الكرادة الشرقية فقد توسعت عام 1933 وانشأت فيها بيوت جديدة. وافتتحت فيها الشوارع الواسعة بعد ان ‏كانت قرية صغيرة ليس فيها الا العدد الضئيل من بيوت متناثرة ومساكن الفلاحين المبنية من اللبن (الطين ‏المفخور)‏  

‏ امتدت مدينة بغداد في الثلاثينيات شمالاً وجنوباً بشكل يختلف عن السابق وعلى امتداد نهر دجلة وتحولت من ‏النمو الدائري او شبه الدائري ضمن أسوارها لتصبح ذات امتداد طولي، إذ أن الفيضانات لها إثر كبير في تحديد ‏مساحة المدينة وتوسعاتها.  ولا سيما في الجانب الشرقي الذي كان مهدداً بالغرق أكثر من الجانب الغربي. لذلك ‏كانت تلك التوسعات عشوائية بعيدة عن الخطط التوجيهية.

اولى المحاولات الجادة، ذات الأهمية في تخطيط مدينة بغداد، قد جرت في بداية سنة 1936. عندما استدعت ‏الحكومة العراقية، البروفسور الالماني المشهـور بتخطيط المدن بريكس ومعاونه برونو وينفر وقد أوكلت اليه ‏أمانة العاصمة مهمة اعداد تصميم حديث لمدينة بغداد. فكتب تقريراً أوصى بموجبه بأهمية فتح شوارع جديدة ‏كان من أهمها الشارع الذي عرف بـ(شارع الملك غازي) وفضلاُ عن ذلك فقد اشار الى اهمية فتح شارع عريض ‏اخر مواز للشارع المذكور لاهميته من جانب معماري ولتسهيل حركة النقل في بغداد(شارع الكفاح) ، وتناول ‏التقرير المطارات والسكك الحديد والسكن ومشاريع الماء والكهرباء والمجاري والشوارع والكراجات ولم ينفذ ‏بصورة تامة لكنه كان مشروعاً ممهداً لوضع تصاميم اخرى اكثر دقة) قامت تخمينات ذلك التصميم على اساس ‏ان مدينة بغداد لا تستوعب اكثر من نصف مليون نسمة، اذا بقيت على حدودها القديمة المثبتة بلا إضافات ‏جديدة، لذلك استندت حسابات التصميم الى تلك التوقعات، وأخذت بنظر الاعتبار الزيادة الطبيعية ، بحيث تتمكن ‏المدينة من استيعاب 1.2 مليون نسمة في أحوال اقتصادية واجتماعية مناسبة للزيادة المتوقعة في سكان ‏بغداد.

سار توسع المدينة بدون تخطيط منظم في الثلاثينيات وظهرت أحياء جديدة كانت ذات طرز معمارية مختلفة عن ‏عمارة الأحياء البغدادية القديمة، من حيث ضخامة بيوتها وكثرة عدد الغرف فيها، التي تكونت من طابقين ‏وتقلصت الحدائق لزيادة مساحة البناء. اذ ان التقاليد الاجتماعية ساهمت في بقاء الأسرة مجتمعة ومتماسكة في ‏بيت واحد كذلك ساعد استعمال قضبان الحديد [الشيلمان] وأنشاء أول مصنع للسمنت في العراق عام 1936 ‏يمكن القول: انه على الرغم من تلك التوسعات كانت بغداد قد تأثرت بشكل كبير بالسداد التي تحيط بها فبقي ‏الشكل المستطيل هو السمة البارزة في توسعاتها على جانبي نهر دجلة.

كان نمو مدينة بغداد خلال الحرب العالمية الثانية بطيئاً نسبياً بفعل عوامل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي ‏وتعرض المدينة لفيضانات متكررة فضلاً عن التأثيرات السلبية للحرب، التي انعكست على انخفاض الدخل ‏القومي للبلاد فتدهور المستوى المعاشي للمواطن العراقي بصورة عامة.‏

وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية استتبت حالة الأمن والاستقرار نوعاً ما في مدينة بغداد فكان هذا الامر من ‏العوامـل المشجعة على توسع الضواحي المحيطة بالمدينة. التي كانت في الأصل بساتين تنتشر على ضفتي نهر ‏دجلة في الرصافة والكرخ.‏

كان توسع المدينة على امتداد جانبي النهر ووصل البناء الى الكاظمية والاعظمية والكرادة الشرقية. الى جانب ‏ذلك توسعت الرصافة من السنك والباب الشرقي نحو ارخيته والكرادة الشرقية، ثم اتصلت بمعسكر الرشيد ‏والاعظمية، واتسع جانب الكرخ حتى (مكان محطة قطار بغداد) وجنوباً حتى كرادة مريم. ومن الجدير بالذكر ان ‏التوسع قد حدث بعد ازدياد توجه سكان بغداد القديمة المحصورة ضمن بقايا السور نحو تلك المناطق انسجاماً ‏مع التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي سمح لهم بالتنقل لشراء مساحات واسعة وتشييد بيوت تتلاءم مع ‏مراكزهم الاجتماعية ومستوياتهم الاقتصادية.

ظهرت احياء جديدة في بغداد عام 1945 حيث أسست شركات خاصة لإنشاء البيوت الحديثة الواسعة كشركة ‏بغداد الجديدة واشترت ارض واسعة تتكون من ألاف الدونمات تقع في شرقي العاصمة. لم يحقق مشروع بغداد ‏الجديدة نجاحاً كبيراً في بداية الامر لتعرض المنطقة للفيضانات الى جانب المنافسة الشديدة التي اوجدتها شركة ‏حديثة مماثلة لها تأسست بعدها لبناء البيوت في غربي بغداد عرفت بشركة المنصور.

اما تخطيط مدينة بغداد بعد عام 1945، فقد شعرت امانة العاصمة بأهمية وضع دراسة شاملة عن المدينة ‏فقامت باستدعاء مؤسسة مونبريو البريطانية وكلفتها بإعداد تصميم جديد للمدينة يتلاءم مع متطلبات العصر ‏وركزت جهودها على تنظيم وترميم بعض الواجهات القديمة فيها وعملت على فتح طرق جديدة بهدف الربط ‏بين مناطق السكن وأماكن العمل الرئيسة في المدينة واقترحت إنشاء خمسة جسور جديدة، (الصرافية، ‏والجمهورية، السنك الكرادة والائمة.) واوصت بفتح كورنيش على دجلة ونقل المطار الى طريق الفلوجة، ‏ودعت الى إنشاء محطات ومخازن وأرصفة شحن خلف السدة الشرقية. كما أوصت بحصر المؤسسات ‏الصناعية في منطقة الدورة وقرب   مصافي النفط وقرب معمل الأسمنت في جنوب معسكر الرشيد ونقل معامل ‏الطابوق ومنع انشاء الدور في المناطق الصناعية. ‏

لم تّطبق توصيات الشركة في وضع التصميم لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي فضلاً عن عدم وجود المبالغ ‏اللازمة لذلك.  

امتدت بغداد خلال هذه الحقبة نحو الأعظمية التي توسعت هي الاخرى نحو الجنوب باتجاه الكرادة الشرقية بعد ‏ان حلت الدور الجديدة محل بساتينها وامتد الكرخ بشكل بطيء نحو الشمال ثم توسع نحو الجنوب واتصل ‏بكرادة مريم نحو الغرب إذ ظهرت بداية ضاحية جديدة هي المنصور وتوسعت الكاظمية نحو الجنوب.

وشهدت مدينة بغداد في حقبة الخمسينيات توسعاً ملحوظاً بفعل عائدات النفط العراقي بعد التوسع في استخراجه ‏وتصديره، وتنظيم اقتصاديات البلاد. أثر تشكيل مجلس الاعمار سنة 1950، وحصول المملكة في سنة 1952 ‏على نصف الأربـاح. فارتفعت العائدات لسنة 1953 الى 50 مليون دينار بعد ان كانت عام 1949 (3) ملايين ‏دينار فقط مما ساعد على زيادة المبالغ المخصصة للتوسع العمراني في المدينة.

ازداد بناء الدور الحديثة ذات الحدائق الواسعة في الكرادة الشرقية في أطراف العلوية، وفي منطقة الصليخ وفي ‏أطراف الاعظمية والكاظمية، والمنصور على حساب بساتين النخيل التي كانت قائمة خلف تلك المناطق، الا ان ‏هذا التوسع كان ضمن حدود امانة العاصمة المتمثلة بالسداد الشرقية التي لا تبعد كثيراً عن ضفة النهر، فبقي ‏الشكل المستطيل هو السمة الغالبة للمدينة بسبب الخشية من الفيضانات التي لعبت دوراً كبيراً في الحد من ‏توسع المدينة عرضياً. حتى أنشأ سد الثرثار عام 1956 الذي حد من خطورة تلك الفيضانات.

ظهرت محاولات اخرى لوضع تصاميم جديدة لمدينة بغداد في بداية الخمسينيات، ويذكر فخري الفخري. امين ‏العاصمة عام 1954 الجهود التي بذلها في تخطيط المدينة بوضع تصميم اساس لها في سنة 1956 بعد ‏تقديمه طلباً الى الجهات المختصة لاستقدام المستشارين البريطانيين (مينوبريو وبنسلي وماكفارلين) للقيام ‏بأعداد الدراسة الشاملة من اجل وضع تصميم مميز عن التصاميم الأخرى، فتم تطبيقه في حين بقيت التصاميم ‏السابقة لمدينة بغداد حبراً على ورق.

كان التصميم الأساسيّ الذي وضع لمدينة بغداد عام 1956 على شكل شعاعي يسهل الحركة في المدينة ‏واطرافها من جهة ولكنه من جهة اخرى قد يؤدي الى أضعاف الوظيفة السكنية لان قطع الأراضي ذات الأشكال ‏الهندسية قد لا تكون مرغوبة لأغراض السكن.  واهم ما جاء في التصميم فتح شارع الخلفاء وانشاء مشروع ‏تصريف المياه القذرة. وصاحب تطبيق التصميم هدم كثير من الدور في الجانب الشرقي من بغداد.

وفي عام 1958 كلفت الحكومة شركة دوكسيادس اليونانية بأعداد تصميم جديد للمدينة يكون على شكل مربع ‏يمتاز بطرق مستقيمة ومتوازية ومتقاطعة مع بعضها ومما يجدر ذكره أن هذه الشركة قد استعملت للتخطيط ‏الموقعي وليس لتخطيط المدينة وانما قامت بوضع تصاميم لمشاريع الإسكان في حي اليرموك وغربي بغداد ‏لكنها اهملت لأنها لم تكن دقيقة.

نستنتج مما تقدم ان توسع مدينة بغداد قد تأثر بعدة عوامل كان من أهمها ضعف تحكم الدولة بمياه الفيضانات ‏لعدم وجود السدود اللازمة لتبديد مخاوف البغداديين من هواجس الفيضانات وصورها المرعبة وحوادثها ‏المؤلمة التي بقيت عالقة في اذهانهم لتكرارها المتعاقب بشكل اثر على المعالم العمرانية القائمة في المدينة ، ‏وقلل من توفر عنصر الاطمئنان في الاماكن التي يحتمل تعرضها للفيضانات بين آونة واخرى بحيث كانت من ‏العوامل المثبطة لعزم كثير  من الراغبين بتشييد مساكنهم في تلك المناطق في ظل غياب الدور الحكومي الجاد ، ‏الذي تمثل في عجز الحكومة عن مواجهة أخطار الفيضانات اذ واجهتها بوسائل بدائية ، ولم تنتبه الى خطورة ‏تلك العقبات ، التي كانت تشكل بشكل او بأخر عوامل معرقلة لنمو المدينة وتوسعها الا بعد منتصف الخمسينيات ‎‎.

أ.د علاء محمود التميمي ‎‎.

Alaa Al Tamimiتطور مدينة بغداد خلال الانتداب و الحكم الملكي (1917 – 1958)

1 comment

Join the conversation
  • Urban Reform

    Urban Reform - November 1, 2022

    شكرًا جزيلا د.علاء التميمي لهذا الايجاز عن تلك الحقبة من تأريخ بغداد

Leave a Reply